الجهاد: تعريفه ومراتبه :

الجهاد لغة

مصدر رباعي مِن جاهد يجاهد جِهادًا، ومادته: (جَهَدَ) الجيم والهاء والدال هي أصل هذا المصدر، وله عدة معان منها: الطاقة، والمشقة، والوسع، والقتال، والمبالغة.

قال ابن فارس رحمه الله: “الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثمَّ يُحمل عليه ما يقاربه، يُقال: جهدت نفسي وأجهدت، والجهد: الطاقة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}[التوبة 79 . 

وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله: “الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة، وقيل: الجَهد بالفتح: المشقة، والجُهد بالضم: الوسع .

وقال الفراء رحمه الله: “بلغت به الجهد: أي الغاية، واجهد جهدك في هذا الأمر، أي: ابلغ فيه غايتك، وأما الجهد: فالطاقة: يقال: اجهد جهدك .

وقال ابن الأثير رحمه الله: “الجهاد: محاربة الكفار، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة مِن قول أو فعل، يقال: جهد الرجل في الشيء: أي جد فيه وبالغ, وجاهد في الحرب مجاهدة وجهادًا .

وقال ابن منظور رحمه الله: “والاجتهاد والتجاهد، بذل الوسع والمجهود…وجاهد العدو مجاهدة وجهادًا: قاتله، وجاهد في سبيل الله، وفي الحديث: (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ)[ 5 ] الجهاد لمحاربة الأعداء، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة مِن قول أو فعل…وهو المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب، أو اللسان .

الجهاد شرعًا:

للجهاد في الشرع معنيان: معنى خاص ومعنى عام، وكلاهما راجع للمعنى اللغوي المتضمن بذل الوسع والطاقة في سبيل الله تعالى.

المعنى الخاص للجهاد هو: القتال في سبيل الله.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: “الجهاد هو: استفراغ الوسع في مدافعة العدو .

وقال الكاساني رحمه الله: “الجهاد في عرف الشرع يستعمل في بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنَّفس والمال واللسان، أو غير ذلك .

وقال ابن عرفة رحمه الله الجهاد هو: “قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله .

وقال البهوتي رحمه الله: “الجهاد قتال الكفار خاصًّة .

وقال الحصكفي رحمه الله: “الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله .

المعنى العام للجهاد: ويراد به عموم أنواع الجهاد، من جهاد النفس والهوى والشيطان والمنافقين والكفار وغيرهم.

قال ابن حجر رحمه الله: “الجهاد شرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضاً على مجاهدة النفس والشيطان والفساق .

وقال القسطلاني رحمه الله: “قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله، ويطلق أيضًا على جهاد النفس والشيطان .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الجهاد في سبيل الله تعالى مِن الجهد، وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة، فيتضمن شيئين:

أحدهما: استفراغ الوسع والطاقة.

والثاني: أنْ يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله، ودفع مكروهاته، والقدرة والإرادة بهما يتم الأمر .

وقال: “وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان .

ومما ورد من الأحاديث في الجهاد بمعناه العام قوله صلى الله عليه وسلم (المجاهد من جاهد نفسه .

وقوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذنه في الجهاد: (أحي والداك ؟ قال نعم، قال ففهيما فجاهد .

الجهاد عند الإطلاق:

إذا أطلق لفظ الجهاد فالمراد به القتال في سبيل الله تعالى، وهو محل نظر الأحكام الفقهية المتعلقة به مِن معاهدات، أو عقود هدنة، وصلح،… ونحو ذلك.

يقول ابن رشد: “فكل من أتعب نفسه في ذات الله فقد جاهد في سبيله إلا أن الجهاد إذا أطلق لا يقع إلا على مجاهدة الكفار بالسيف .

ومما يدل على أن الجهاد إذا أطلق ينصرف إلى قتال الكفار ما يلي

  1. عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: لا أَجِدُهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ. قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟!) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: (إِنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ)
  2. . ودلالة هذا الحديث على المراد ظاهرة، فالصيام والقيام هما من جهاد النفس، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا أجد ما يعدل الجهاد) فدل على أن المراد بالجهاد إذا أطلق هو جهاد الكفار لا مجاهدة النفس.
  3. عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ) قالُوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ .   فالذي يتقي الله في شعب من الشعاب مجاهد لنفسه، ومع هذا صرف النبي صلى الله عليه وسلم معنى الجهاد إلى قتال الكفار.
  4. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ و فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ .

فمن جلس في أرضه ولم يقاتل في سبيل الله لا يعتبر مجاهداً، مع أنه يجاهد نفسه على الصلاة والصيام ونحو ذلك من أنواع الجهاد.

وكل الآيات والأحاديث التي تدل على فضائل الجهاد فالمراد بها الجهاد الحقيقي وهو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، ولا تحمل على جهاد النفس أو غيره من أنواع الجهاد. وكذلك علماء الإسلام من محدثين وفقهاء إذا بوبوا في كتبهم للجهاد فالمراد به جهاد الكفار القتالي لا مجاهدة النفس.

أقسام الجهاد ومراتبه:

تعددت تقسيمات العلماء للجهاد، فتارة يقسمونه بحسب من يقع عليه الجهاد، فيقسمونه إلى: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، وجهاد أهل البدع والمنكرات. وتارة يقسمونه باعتبار الآلة التي يكون بها الجهاد فيقسمونه إلى: جهاد القلب، وجهاد اليد، وجهاد اللسان، وجهاد المال.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: “والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النَّفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج: 78]، {وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 41]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنفال: 72]… والمجاهدة تكون باليد واللسان، قال صلى الله عليه وسلم: (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِيكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ .

وقال ابن رشد رحمه الله: “الجهاد المبالغة في إتعاب الأنفس في ذات الله وهو على أربعة أقسام: جهاد بالقلب أن يجاهد الشيطان والنفس عن الشهوات المحرمات، وجهاد باللسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وجهاد باليد أن يزجر ذوو الأمر أهل المناكر عن المنكر بالأدب والضرب على ما يؤدي إليه الاجتهاد في ذلك، ومن ذلك إقامتهم الحدود، وجهاد بالسيف قتال المشركين على الدين .

وقال ابن القيم  رحمه الله: “الجهاد أربع مراتب: جهاد النَّفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين .

وهنا سنكتفي بذكر مراتب الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد، وما يكون به الجهاد فهو داخل فيه ضمناً

أولاً: جهاد النفس

أقسم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بالنفس الإنسانية، لأنها من أعظم ما خلق جل جلاله وأبدع، فقال سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ♦ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ♦ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ♦ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ♦ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ♦ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ♦ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، ثم ذكر سبحانه أنه بيّن للنفس طريق الخير والشر {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، وترك لها حرية الاختيار بينهما، ثم بيّن عاقبة كل طريق فقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ♦ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} فبإمكان الإنسان أن يزكي نفسه ويرقى بها، وبإمكانه أن ينحطّ بها ويدنسها!

وسبيل الأخير يسير، لا يتطلب سوى ترك النفس وما تهوى، من تتبع ملذاتها، وترك ما يشق عليها.

أما تزكية النفس فتحتاج إلى مجاهدة، وصبر، واستعانة بالله تعالى، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُكثر من قول: (اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا  .

والنفوس ثلاثة، ذكرها الله عزوجل في القرآن الكريم:

أولهاالنّفس الأمّارة بالسّوء: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[يوسف: 53]، فهي توجّه صاحبها بما تهواه من شهوات وغرائز، حتى يصبح ميلها للشر، والانسياق وراء الشهوات والرذائل عادة فيها، وهذه النفس لا يجاهدها صاحبها أبداً، بل يطلق لها العنان لتفعل ما تشاء، ولا يحاسب نفسه على شيء مما يفعل.

وثانيهاالنفس اللوّامة: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 2وهي النفس المتيقّظة الخائفة، التي تندم بعد ارتكاب المعاصي والذنوب فتلوم وتحاسب نفسها أولاً بأوّل، وهذا اللوم والمحاسبة من الجهاد، لما فيه من مشقة لإرجاع النفس إلى طريق الصواب.

أما ثالث النفوس فهي التي نجح صاحبها في مجاهدتها، حتى زكّاها، وسلك بها طريق طاعة ربها، فأصبحت مؤمنة بخالقها، راضية بقدره، مجتهدة في طاعته، وهي النفس المطمئنة.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله: “أَصْلُ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ فَطْمُهَا عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ وَحَمْلُهَا عَلَى غَيْر هَوَاهَا وَلِلنَّفْسِ صِفَتَانِ: اِنْهِمَاكٌ فِي الشَّهَوَاتِ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ الطَّاعَاتِ، فَالْمُجَاهَدَةُ تَقَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ .

وقال ابن القيم رحمه: “جهاد النفس أربع مراتب أيضًا:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.

فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات .

ذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر إن كل أحد في خسر {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، {وعملوا الصالحات} وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى، {وتواصوا بالحق} وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً فهذه مرتبة ثالثة، {وتواصوا بالصبر} صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات فهذه مرتبة رابعة .

ومن أخص جهاد النفس: نهيها عن هواها، أي حملها على مخالفة ما تهواه النفس، من فعل المحرمات والشهوات،  قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ♦ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:40-41]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه مجاهدة النفس بقوله وبِفعله، فمن ذلك:

ما رواه أبو هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط .

وعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ) فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟). قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بِالصُّرَعَةِ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العبادة في الهرج كهجرة إليَّ .

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تنفطِر قدماه، فقلت: “لم تصنع هذا وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: (أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا .

أما الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) يعني جهاد النفس، فإنه لا يصح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة، وليس بحديث.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” فلا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صل الله عليه وسلم وأفعاله .

ثم إن معناه غير دقيق، فإن قتال الأعداء هو ذروة سنام الإسلام، وإليه تنصرف عشرات النصوص من الكتاب والسنة في فضله وفضل من يقتل في سبيل الله، وهو يمثّل أعلى درجات الجهاد ومراتبه، فلا يصله إلا من جاهد نفسه حقيقة حتى تغلّب عليها، فسارع إلى امتثال أمر الله عز وجل بقتال الكفار، ومن تأخر عن قتال الكفار مع قدرته وزوال الموانع دونه فإنه ضعيف أمام نفسه، لم يستطع مجاهدتها، وانهزم في معركته مع هواه!

ثانياً: جهاد الشيطان

الشيطان عدو للإنسان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]، وقد أقسم على إغواء بني آدم، قال تعالى: {وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا ♦ لَّعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ♦ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}[النساء: 117-119].

وهو قريب من الإنسان جداً، وملازم له في كل أحواله، يلقي في قلبه الوساوس حتى يضلّه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرى الدم .

والتصدي لوساوس الشيطان، وعصيانه: جهاد.

عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ .

مراتب جهاد الشيطان:

قال ابن القيم رحمه الله: أما جهاد الشيطان فمرتبتان

إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر. قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}[السجدة: 24فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

طرق جهاد الشيطان:

 1- إدراك أنه عدو وإدامة الحذر منه:

فقد بين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الشيطان لنا عدو، وأمرنا باتخاذه عدواً، وبالحذر منه أشد الحذر، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: 6]. وقال سبحانه: {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[الزخرف: 62وقال في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[البقرة: 168]. 

ومما يدعو الإنسان إلى الحذر من الشيطان وترك سبيله: علمه بأنه سيتخلى عمن يتبعه ويعمل بوساوسه، سواء في الدنيا كما في معركة بدر حيث زين للمشركين المقام على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه فلما رأى جيش الملائكة ولى مدبراً، قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 48].

أو في الآخرة، حين يقف خطيباً في جهنم ليعلن براءته ممن اتبعه !  {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم: 22].

  • التنبه إلى خطوات الشيطان ومكائده:

فإن له طرقاً عجيبة في ذلك، فإنه يسعى لإضلال الإنسان وتحويله إلى الكفر بالله، فإن لم يستطع أوقعه في البدعة، فإن لم يستطع أوقعه في الكبائر، فإن فشل في ذلك أوقعه في الصغائر، فإن رآه ممتنعاً عن الذنوب أمره بالتوسع في المباحات حتى يشغله عن ذكر الله وعبادته، فإن لم يستطع أشغله بالمفضول من العمل عن الفاضل، وهكذا، وقد سمى الله تعالى هذه الطرق: خطوات، وحذرنا منها فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}[البقرة: 208].

  • العودة إلى دين الله والاعتصام بحبله، ولزوم السنة والجماعة:

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].

وعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ  .

  •  الاستعاذة بالله والاحتماء به من الشيطان:

قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت: 36]، وقال تعال: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[النحل: 98]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201].

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذكار والأعمال التي تقينا بإذن الله من الشيطان، فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .

ثالثاً: جهاد الكفار

ومن جهاد الشيطان جهاد أوليائه وحزبه، فقد أمرنا الله تعالى بقتالهم، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}[النساء: 76]. 

قال ابن القيم رحمه الله: “وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ… فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ: بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ… وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ .

فجهادهم بالقلب: بغضهم وبغض ما هم عليه من الكفر والمعصية.

وجهادهم باللسان: دعوتهم للإسلام، والرد على حججهم وشبهاتهم، والتنفير منهم ومن أعمالهم.

وجهادهم بالمال: بذله في سبيل دعوتهم، أو تأليف قلوبهم، أو لإعداد القوة لقتالهم ورد عدوانهم.

وجهادهم بالنفس: قتالهم، وهو ذروة سنام الإسلام.

رابعاً: جهاد المنافقين.

المنافق هو الذي يظهر الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وغيرها من الشعائر، ويبطن الكفر، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14], وقال تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران:154]، ويُعرف المنافق في فلتات لسانه، قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}[محمد:30]، والأفعال الدالة على النفاق كثيرة، كمولاة الكفار وغيرها، وقد أنزل الله تعالى تفصيلاً لأفعالهم وأحوالهم في سورة “التوبة”، فبيَّن فيها فضائحهم، قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}[التوبة:64].

وقد وصف الله تعالى المنافقين بأنهم عدو للمسلمين، بل هم “العدو”، قال تعالى: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المنافقون: 4]، قال ابن عاشور رحمه الله: “والتعريف في (العدو) تعريف الجنس الدال على معين، لكمال حقيقة العدو فيهم، لأن أعدى الأعادي: العدو المتظاهر بالموالاة وهو مدَّاح، وتحت ضلوعه الداء الدوي، وعلى هذا المعنى رُتب عليه الأمر بالحذر منهم .

فعداؤهم أشد من عداء المشركين الظاهرين المعلنين بمحاربتهم، قال الطبري رحمه الله: “هم العدو يا محمد فاحذرهم ، فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم أعين لأعدائكم عليكم .

كيفية جهاد المنافقين:

وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين والكافرين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة: 73قال الطبري رحمه الله: “وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب: ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره من جهاد المشركين، فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم ؟ قيل: إن الله تعالى ذِكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك، وأما من إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال إني مسلم، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أنه يحقن بذلك دمه وماله وإن كان معتقداً غير ذلك .

فجهاد المنافقين إذن إذا أظهروا الكفر الجلي بقول أو فعل أن يجاهدوا مثل جهاد الكفار. قال ابن كثير رحمه الله:

“روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ}[التوبة: 5]، وسيف لكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ}[التوبة: 29 ]، وسيف للمنافقين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]، وسيف للبغاة {قَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9]، قال ابن كثير: “وهذا يقتضي أن يجاهدوا بالسيف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير .

وقال ابن القيم رحمه الله: “وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان .

وقال ابن القيم أيضا: وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام قال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل والقائمون به أفراد في العالم والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عددًا فهم الأعظمون عند الله قدرًا، ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه كان للرسل صلوات الله عليهم وسلامه من ذلك الحظ الأوفر وكان لنبينا صلوات الله وسلامه عليه من ذلك أكمل الجهاد وأتمه .

وقال ابن القيم أيضا: “الجهاد نوعان: جهاد بالسيف والسنان، وهو جهاد العامة، وأنصاره كثير، وجهاد بالحجة والبيان وهو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وأنصاره قليل، وهو أفضل النوعين، لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه .

خامساً: جهاد أهل البدع والمنكرات:

هذا النوع من الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، حسب المراتب التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ .

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ

. وقال تعالى: {ولتكُنْ منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[ آل عمران: 104

وقال تعالى: {الذين إن مكَّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأَمَروا بالمعروف ونَهَوا عن المنكر}[الحج: 41

وهذه النصوص تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الفريضة المقصودة بجهاد الفاسقين والمبتدعين والظالمين الذين يَظهَرون في الأمّة أو يتمكَّنون فيها، والمقصود من هذه الفريضة هو حفظ الأمة في دينها وأعرافها وسلوك أفرادها، وقد يكون ذلك بمنع هؤلاء من إفسادهم، أو بإصلاح الخلل الذي تؤدي إليه دعواتُهم المفسدة.

قال ابن القيم رحمه الله: “وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه .

القتال في سبيل الله، أقسامه وأسبابه وأنواعه :

  • أولاً: أقسام الجهاد في سبيل الله:

الجهاد ينقسم إلى قسمين: جهاد الطلب وجهاد الدفع.

  1. جهاد الطلب: وهو الذي يغزو فيه المسلمون الكفارَ في أرضهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم من بعده، والمسلمون من بعدهم. والهدف منه: فتح باب الدعوة إلى الإسلام للوصول إلى الناس كافة، وإزالة العوائق التي يضعها رؤوس الكفار للحيلولة دون وصولها إلى مرؤوسيهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[البقرة: 193]، وليس الهدف منه إجبار الناس على الدخول في دين الله، لأن الله قال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256].
  2. جهاد الدفع: وهو أن يدهم العدو بلاد المسلمين فيدفعونه. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190]

وجهاد الدفع أعظم أجراً من جهاد الطلب، لأن جهاد الدفع فيه حفظ رأس مال المسلمين، وجهاد الطلب فيه طلب ربح، وحفظ رأس المال مقدم على طلب الربح، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء: 75].

وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب، فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}[الحج: 39]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قُتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد )

ولأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباح ورخصة، فإن قُتل فيه فهو شهيد، فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً … ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون، فإنهم كانوا يوم أُحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجباً عليهم، لأنه حينئذٍ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار، ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع  .

ثانياً: أسباب الجهاد في سبيل الله:

 أسباب القتال كثيرة، أوصلها د. محمد خير هيكل في كتابه الجهاد والقتال في السياسة الشرعية إلى اثني عشر سبباً، هي: قتال أهل الردّة، وقتال أهل البغي، وقتال المحاربين قطّاع الطرق، والقتال للدفاع عن الحرمات الخاصة (قتال الصائلين على النفس والعرض والمال)، والقتال للدفاع عن الحرمات العامة في المجتمع الإسلامي كالقتال لإنكار المنكر وإزالته، والقتال ضد انحراف الحاكم، وقتال الفتنة (وهو القتال غير المشروع بين طائفتين)، وقتال مغتصب السلطة، وقتال أهل الذمة، وقتال الغارة من أجل الظفر بمال العدو، والقتال لإقامة الدولة الإسلامية، والقتال من أجل وحدة البلاد الإسلامية. وفرّق بين ما يكون منها جهاداً في سبيل الله وما لا يكون.. 1دفع الاعتداء الواقع على الدين أو النفس أو الديار ومتعلّقاتها:

وهذا العدوان إمّا أن يكون واقعاً حقيقة كما في غزوة الخندق، حيث حاصر الأحزاب من المشركين المدينة شهراً، وحصل قتال بينهم وبين المسلمين، أو أنه على وشك الوقوع وذلك كما في غزوة حُنين حيث علم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الروم ستغزوه فسيّر إليهم جيشاً، ولا يشترط أن يكون هذا العدوان واقعاً على جماعة كبيرة من الأمة، بل يمكن أن يكون نازلاً على فرد واحد كما في غزوة مؤتة حيث قتل عامل قيصر: شرحبيل بن عمرو الغساني رسولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه، فجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشاً لقتالهم.

ويلحق في هذا الاعتداء على أي ممن هم في عهد ورعاية الدولة المسلمة حتى وإن كانوا ذميين، ذلك أن لهم على الدولة حق الحماية والرعاية، وليس مشروطاً أن يكون الاعتداء واقعاً على النفس بل قد يكون واقعاً على المال كما في قتال الصائل الذي لم يندفع إلا بذلك، وقد يكون اعتداء على الدين كما في قتال المرتدين.

2– نقض العهود والمواثيق:

وفي ذلك يقول الله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أَيْمان لهم لعلهم ينتهون * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة: 12- 13]. ومن ذلك قتال النبي -صلى الله عليه وسلم- بني قريظة، لنقضهم العهد، ومعاونتهم المشركين في غزوة الأحزاب، وتحريضهم على قتال المسلمين، وكذا غزوه -صلى الله عليه وسلم- لمكة بعد نقضها صلح الحديبية

3 الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية:

مما لا شك فيه أن المسلمين مكلّفون بتبليغ هذا الدِّين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلِّغوا عنِّي ولو آية . فأُمَّة الإسلام مُكلَّفة بدعوة الناس، فإن تصدى لها متصدٍ، ووقف في طريق وصولها إلى الناس، لم يكن هناك سبيلٌ إلَّا مواجهته. قال السعدي رحمه الله في تفسير {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}: “ثم ذكر -تعالى- المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن {يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} تعالى، فيظهر دين الله -تعالى- على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره، وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود، فلا قتل ولا قتال .

ثالثاً: أنواع القتال في سبيل الله:

  1. قتال الكفار والمشركين:

وهو أمر لازم لحفظ المسلمين من شرّهم، ولازم لنشر الإسلام بينهم، ويخيرون فيه على الترتيب بين الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال.

قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة: 29].

وعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذَا أمَّرَ أمِيراً عَلَى جَيْشٍ أو سَرِّيَةٍ أوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقَوَى الله وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: (اغْزُوا باسْمِ الله في سَبيلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالله، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً. وإذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلاثِ خِصَالٍ أوْ خِلالٍ، فَأيَّتُهُنَّ مَا أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، فإنْ أجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلى دَارِ المُهَاجِرينَ، وأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلمُهَاجِرينَ وَعَلَيْهُمْ مَا عَلَى المُهَاجِرين، فَإنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعْرَابِ المُسْلِمينَ يَجْري عَلَيْهِمْ حُكْمُ الله الَّذي يَجْرِي عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ في الغَنِيمَةِ وَالفَيْءِ شَيءٌ، إلَّا أنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمينَ، فَإنْ هُمْ أبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فَإنْ هُمْ أجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإنْ هُمْ أبَوْا فَاسْتَعِنْ بِالله وَقَاتِلْهُمْ) .

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: “الرِّدَّةِ هِيَ: قَطْعُ الْإِسْلَامِ بِنِيَّةِ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ أَوْ فِعْلٍ، سَوَاءٌ قَالَهُ اسْتِهْزَاءً أَوْ عِنَادًا أَوْ اعْتِقَادًا .

وينظر إلى المرتدين من ناحيتين:

  1. فإن كانوا أفراداً تحت سلطة الدولة:

فهؤلاء لا يُقاتلون، لأنهم تحت سلطة الدولة، وليست لهم منعة يعتصمون بها، والواجب دعوتهم، وإزالة الشبه التي حملتهم على الخروج عن الإسلام، ثم استتابتهم مدة تتناسب مع شبهتهم، وبحسب رجاء رجوعهم إلى الإسلام أو اليأس من ذلك، فإن تابوا وإلا قتلوا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .

  • وإن كانوا خارجين عن السيطرة في إقليم أو ناحية:

فهؤلاء يُدعون ويُناظرون، فإن تابوا وإلا فالواجب قتالهم بعد الإعذار والإنذار، ويكون حكمهم حكم أهل الحرب، قال الماوردي رحمه الله: “فيجب قتالهم على الردة بعد مناظرتهم على الإسلام وإيضاح دلائله، ويجري على قتالهم بعد الإنذار والإعذار حكم قتال أهل الحرب في قتالهم غرة وبياناً، ومصافتهم في الحرب جهاراً، وقتالهم مقبلين ومدبرين، ومن أسر منهم جاز قتله صبراً إن لم يتب  .

الباغي هو المجاوز للحدِّ الخارج عنه، قال ابن منظور: “وَمَعْنَى البَغْي قصدُ الْفَسَادِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَبْغِي عَلَى النَّاسِ إِذَا ظَلَمَهُمْ وَطَلَبَ أَذاهم. والفِئَةُ البَاغِيَةُ: هِيَ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ طَاعَةِ الإِمام الْعَادِلِ… وأَصلُ البَغْي مُجَاوَزَةُ الْحَد … وبَغَى عليه يَبْغِي بَغْياً: علا عليه وظلمه. وكلُّ مُجَاوَزَةٍ وَإِفْرَاطٍ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ حَدُّ الشَّيْءِ بَغْيٌ .

فأهل البغي هم طائفة من الناس جمعت بين ثلاثة أمور:

1- التمرد على سلطة الدولة بالامتناع عن أداء الحقوق، وطاعة القوانين.

2- وجود قوة يتمتع بها البغاة تمكّنهم من السيطرة.

3- الخروج، ويقصد به استخدام السلاح ابتداءً ضد الدولة في سبيل تحقيق أغراضهم، أو مقاومة الدولة بالسلاح في حال قامت الدولة بمواجهتهم ومحاولة إخضاعهم للنظام .

وجمهور الفقهاء يشترط لاعتبارهم من أهل البغي وجود شبهة شرعية، أي: تأويل سائغ -ولو كان ضعيفاً- يعتمدون عليه في تمردهم، وبعضهم لا يشترط ذلك، فيعتبرون الخارجين من أجل السيطرة على الحكم، بدون تأويل أو شبهة من البغاة أيضاً.

قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحُجُرات: 9].

وهم المفسدون في الأرض أيّاً كان مطلبهم، وسواء كان مسلمين أو غير مسلمين كأن يكونوا ذميين أو مرتدين، وسواء قلّوا أو كثروا، وسواء قصدوا بعدوانهم فرداً، أو جماعة من الناس.

وقتال المحاربين من الجهاد في سيبل الله، لحديث: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (قَاتِلْهُ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ)، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ .

وعقوبتهم بعد المقدرة عليهم هي كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: 33- 34].

الحاكم إذا كان كافراً أو مرتداً وجب الخروج عليه وقتاله إذا غلب على الظن القدرة عليه، عملاً بالآيات والأحاديث الآمرة بمجاهدة الكفار والمنافقين، عن جنادة بن أبي أميّة قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويُسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان .

قال القاضي عياض: “أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل .

وعن أم سلمة رضي الله عنها، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا .

أما إذا لم يكن هناك قدرة على الخروج عليه فلا يجوز، وعلى الأمة السعي لتحصيل القدرة والإعداد للاستطاعة على عزله أو قتاله، قال ابن القيم رحمه الله: “إنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة .

والله أعلم

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *