
وبعدَ ظلام الليل الحالك يتنفَّس الصبح بضيائه، ويُرسل إلى الكون خيوط الصباح الأُولى مؤْذِنًا ببدء يوم جديد، ويَشهـدُ الكون في تلك اللحظات المهيبة صراعَ النور والظلمة، واعتراكَ الليل والنهار، ويُبصِر ميلادَ يوم جديد، ويُقبل الفجـر في زُهُوِّه وبهائه يتهادَى اختيالاً،
مِلء عينيه أسرارٌ وأخبار. وفي هـذا الوقت البديع المبارك يُدوِّي في سماء الكون النداءُ الخالد، نداءُ الأذان لصلاة الفجر، فتهتف الأرض كلُّها: “الله أكبر الله أكبر”، “الصلاة خير من النوم”. وتكون صلاةُ الفجر فاتحةَ اليوم في حياة المسلم،
وكأنَّما يُعلِّم الإسلام أهلَه أن يبدؤوا كلَّ أمر بطاعة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، وكأنما هي شكرٌ لله على نعمة الإصباح بعد الإظلام، ويبدأ وقت صلاة الفجر من ظهور الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، والسُّنَّة فيها التعجيل، فيُصلِّيها بغَلَس قبل الإسفـار.
أيُّها المسلمون:
ما من جديد سأذكره عن صلاة الفجر، ولكنَّها كلماتُ نُصْح أُوَجِّهها لكم عن هذه الشعيرة بالذات؛ فنحن نعيش أيام الصيف حيثُ يقْصُر الليل ويطول النهار، وحيث يتمتع قطاعٌ عريض من مجتمعنا بإجازة لا عملَ فيها، فيكثُر السهـر؛ ومن ثَمَّ يكثُر النوم عن صلاة الفجر.
إنك لو واذنت بين عدد المصلين هذه الأيَّام في صلاة الفجر وفي غيرها من الصلوات لرأيت عجبًا!
هل لي أن أطالب نفسي وإيَّاكم بأن يُحصيَ كلُّ فرد مقدارَ ما فاته من صلاة الفجر في جماعة منذُ بداية شهرنا هذا، هل حاولتَ إحصاء ذلك؟ كيف كانت النتيجة؟ أليست محزنة؟!
وإذا كنتَ أدركت الفجر جماعة، فهل لي أن أسأل عن سُنَّتها القَبْلِية؟!
لقد جرى مرة استفتاءٌ محدودٌ شمل عددًا ممن نَحسبُهم راغبين في الخير فكانت النتيجةُ مرعبة؛ ستةَ عَشَرَ في المائة – فقط –
هم الذين لم تفتْهم صلاةُ الفجر خلال أسبوعين! فهل يسوغ لنا ويُقبل منا مثل هذا التفريط؟!
أيُّها المسلمون:
لقد سَمَّى الله هذه الصلاة العظيمة: {قرآن الفجر} فقال – سبحانه -: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]
قال ابنُ كَثير – رحمه الله -: “يعني صلاة الفجر”، ورَوى البخاريُّ في “صحيحه” عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «تجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار في صلاة الصبح»، يقول أبو هريرة – رضي الله عنه -: اقرؤوا إن شئتم: «وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا».
وهكذا تكون صلاة الفجر مجتمعًا للملائكة، ومحفلاً من محافل الخير والطاعة والعبادة، لا يحضُرُه إلاَّ كلُّ طاهرٍ مطهر من الأبرار، يستحقُّ أن يكون في ضيافة الرحمن؛ عن أبي أُمَامَةَ – رضي الله عنه – عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «مَن توضَّأ ثم أتى المسجدَ فصلَّى ركعتين قبل الفجر، ثم جلس حتى يُصلِّيَ الفجر، كُتِبت صلاتُه يومئذٍ في صلاة الأبرار، وكُتِب في وفد الرحمن» (رواه الطبراني – بإسناد حسن).
وليست هذه فضيلة صلاة الفجر الوحيدة، بل قد تكاثَرتِ النصوص بما لهذه الصلاة من فضائل، فهل تعلم – يا عبدَالله – أنَّ صلاة الفجر تعدِلُ قيام الليل؟! روى مسلم في “صحيحه” عن عثمانَ بنِ عفان – رضي الله عنه – قال: سمعت رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «مَن صلَّى العشاءَ في جماعة، فكأنَّما قام نصف الليل، ومَن صلَّى الصبحَ في جماعة، فكأنَّما صلَّى الليل كلَّه»، ورَوى مالك – بسند صحيح -: أنَّ عمر بنَ الخطاب – رضي الله عنه – فَقَدَ سليمانَ بنَ أبي حَثْمَةَ في صلاة الصبح، فمَرَّ على الشِّفاء أمِّ سليمان فقال لها: “لم أرَ سليمان في الصبح!” فقالت: إنه بات يصلِّي فغلبتْه عيناه، فقال عمر: “لَأَنْ أَشْهدَ صلاةَ الصبح في جماعة أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة”، رَحِمك الله يا عمر! ورحمك الله يا سليمان، بتَّ تُصلِّي فغلبتْكَ عيناك! فكيف بالذين يغلبُهم النوم وهم أمام القنوات الفضائية ينتقلون من قناة إلى أخرى؟!

وكيف بالذين لا يغلبُهم النوم، ولكنْ تغلبهم الشهوات؟! كيف بالذين يسهرون على الأرصفة أو في بطون الأودية والشِّعَاب لا يرجون لله وقارًا؟!
إن المحافظة على صلاة الفجر وصيَّةُ النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – والصحابة من بعده لأمة الإسلام؛ فعن أبي الدَّرْدَاءِ – رضي الله عنه – أنه لما حضرتْه الوفاةُ قال: أُحدِّثُكم حديثًا سمعتُه من رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: سمعت رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «مَن استطاع منكم أن يشهدَ الصلاتين: العشاء والصبح ولو حبوًا، فليفعل» رواه الطبراني في “الكبير”، وهو حديث حسن.
إن خروجك للمسجد في صلاة الفجر نورٌ يكون لك يومَ القيامة؛ عن سهل بن سعدٍ السَّاعِدِيِّ – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «بشَّرِ المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنُّور التَّامِّ يوم القيامة» (رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح). إن صلاة الفجر أمانٌ وحفْظٌ من الله لعبده؛ فعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُب – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «مَن صلَّى الصبحَ في جماعة، فهو في ذمَّة الله – تعالى» (رواه ابن ماجه بسند صحيح).
عبادَ الله:
إن هذا الكمَّ الهائل من النصوص والآثار في صلاة الفجر والجماعة – لهو رسالةٌ موجَّهة إلى النفس التي حجبَتْها الشهواتُ والشبهات عن طاعة الله، فتقاعست عن صلاة الفجر، وهي الشعار الصريح والفيصل الواضح بين الصالح والمنافق.
هل من محاسبةٍ للنفس قبل أن تُحَاسَب؟! هل تأمَّلْنا قولَ المؤذن: “الله أكبر”، وتساءْلنا: هل الله أكبر من كلِّ شيء؟! أكبر من السهر على المعصية؟! أكبر من متعة الفراش؟! أكبر من البيع والشراء؟! أكبر من الدنيا بأسرها ومشاغلها الفانية؟!
يا عبدَالله، يا عبدَالله:
ربما تُصلِّي الفجر في جماعة فيُصلَّى عليك في الظهر، فكن في ذمة الله وجواره ولا تنقض العهد؛ فكم من نفس أصبحت في الدنيا وأمست في الآخرة! وكم من نفسٍ أمست بفرح وأصبحت بحزن! اغتنمْ صحتك قبل مرضك؛ قيل لأحد المقعدين المشلولين نتيجة حادث: ماذا تتمنَّى؟ قال: صلاة الجماعة، فاحْمَدِ الله يا عبدَالله، واعمل قبل أن يُحال بينَك وبين العمل.
عباد الله:
إن هذا النداء نوجِّهُه إلى كلَّ مؤمن ممن لا يزال في قلبه خوفٌ من الله، ويُعلن صباحَ مساءَ أنه من أهل المساجد، وأنه يُحافظ على كثير من الصلوات، لكنه يتخلَّف عن صلاة الفجر، وإن هذا التخلُّف ظاهرةٌ سيئة، وبادرة خطيرة تُنْذِر بالعقوبة، وتبعث على الخوف، وتستدعي النصح والإرشاد، وتوجب بذل الأسباب المعينة لتلافيه وتعاطي العلاج قبل أن يستفحلَ المرض، ويعظُم الداء، ويعزُّ الدواء.
ولعلَّ أهمَّ خطوة في طريق العلاج:
استشعارُ أهمية هذه الصلاة، وإدراكُ قيمتها، وأن تركَها والتهاونَ فيها سمةٌ من سمات المنافقين، وعلامةٌ من علامات الخاسرين. وعليك بأذكار النوم، ودعاء الله في الوتر أن يوفِّقك للقيام، وابتعدْ عن المعاصي جملةً وتفصيلاً؛ فإن المعاصي تقيِّد المرءَ عن الطاعة، وهي سلاسل وأغلال في عُنُق صاحبها تمنعه من العمل الصالح.


لا تعليق